مادورو: من سائق الحافلة إلى مواجهة الإمبراطورية الأمريكية
في المياه الزرقاء للكاريبي، تشق حاملة الطائرات الأمريكية USS Gerald R. Ford طريقها، محاطة بمدمرات وفرقاطات، وطائرات القنص B-52s التي تحوم على بعد 30 كيلومتراً فقط من الساحل الفنزويلي. تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب، حشدت الولايات المتحدة ما يقرب من عُشر قوتها البحرية العالمية في منطقة تسمى الآن "عمليات الرمح الجنوبي".
وعلى بُعد مئات الكيلومترات في كاراكاس، يقف نيكولاس مادورو في قصر "ميرافلوريس" الرئاسي، يراقب الأفق. بالنسبة لخصومه في البيت الأبيض، هو "دكتاتور مارق" يجب اقتلاعه. لكن بالنسبة لحلفائه في موسكو وبكين وطهران، هو "مادورو الناجي" الذي عجزت الانقلابات والعقوبات ومؤامرات الاغتيال عن زحزحته.
من الأحياء الشعبية إلى القصر الرئاسي
وُلد نيكولاس مادورو موروس في 23 نوفمبر 1962 في حي "إل فايي"، أحد أحياء الطبقة العاملة في كاراكاس. لم يخرج من الأكاديميات العسكرية مثل سلفه هوغو تشافيز، ولا من النخبة الأكاديمية. تشكل وعيه السياسي في السبعينيات، خلال فورة النفط الفنزويلية التي خلقت ثراءً فاحشاً لقلة وفقراً مدقعاً للأغلبية.
كان والده نقابياً فتح عيني ابنه على النقاشات السياسية، وكانت والدته معلمة، ما عنى أن الثقافة كانت حاضرة في العائلة. في المدرسة الثانوية، انضم مادورو إلى "الرابطة الاشتراكية"، التنظيم الشيوعي الماوي، وكان عازف غيتار في فرقة روك صغيرة أطلقت على نفسها اسم "إينيغما".
لم يكمل مادورو الجامعة، واختار الشارع. في الثمانينيات، قاد الحافلات في شركة مترو كاراكاس. هناك تعلم أهم ما يحسنه حتى اليوم: الإصغاء، واستقبال الشكاوى، وإدارة الخلافات دون تصادم مباشر.
اللقاء مع تشافيز: نقطة التحول
في فبراير 1992، هزت محاولة انقلاب ضد الرئيس كارلوس أندريس بيريز السياسة الفنزويلية. قاد المحاولة الضابط هوغو تشافيز، الذي فشل انقلابه لكنه نطق بعبارة حفرت اسمه في قلوب الفنزويليين حين قال إنه لم ينتصر "حتى الآن".
كان مادورو واحداً من المدنيين القلائل الذين سُمح لهم بزيارة تشافيز في سجن "ياري". عمل كساعي بريد سري، ينقل الرسائل بين الضابط السجين والحركات الشعبية. هناك توثقت عرى ولاء مطلق، وتعرف على شريكة حياته المحامية سيليا فلوريس.
بعد إطلاق سراح تشافيز، أصبح مادورو من مؤسسي حركة الجمهورية الخامسة، مرسخاً موقعه كالرجل الأكثر ثقة لتشافيز. انتُخب نائباً في الجمعية الوطنية عام 2000، ثم أصبح رئيساً لها بين 2005 و2006.
وزير الخارجية: بناء المحور المضاد للهيمنة
في أغسطس 2006، اختار تشافيز مادورو وزيراً للخارجية. كانت الثورة البوليفارية في ذروتها، وأسعار النفط فوق المئة دولار للبرميل. صار مادورو مهندس محور مضاد للهيمنة الأمريكية، فعمق التحالف مع كوبا، وشارك في تأسيس تحالف ألبا، وطور آلية "بتروكاريبي".
في المحافل الدولية، قدم نفسه كصوت مناهض للحرب على العراق وأفغانستان، وضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. في 2009، لعب دوراً محورياً في قرار كاراكاس قطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب احتجاجاً على حرب غزة، واستقبل وزير الخارجية الفلسطيني وأعلن الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين.
وراثة الثورة في أصعب لحظاتها
في ديسمبر 2012، ظهر تشافيز بوجه منهك من العلاج ضد السرطان، ليلقي خطاب الوداع الذي طلب فيه من أنصاره انتخاب مادورو رئيساً إن حدث له مكروه. توفي تشافيز في مارس 2013، وفاز مادورو في انتخابات مبكرة بفارق ضئيل.
منذ اليوم الأول، أدرك مادورو أنه لا يملك كاريزما تشافيز، لكنه ورث آلة حزبية هائلة ومؤسسة عسكرية محكمة الولاء. والأهم، ورث مشروعاً يصفه بأنه ثورة الفقراء التي لا يجوز التراجع عنها مهما كان الثمن.
الكابوس الاقتصادي والحصار الأمريكي
في السنوات التي تلت رحيل تشافيز، بدأ الكابوس الاقتصادي. انهيار أسعار النفط مع الاعتماد المفرط على عائداته، والضوابط على سعر الصرف وانتشار الفساد، أدى إلى انهيار كامل. بين 2014 و2021 انكمش الناتج المحلي بنحو ثلاثة أرباع حجمه.
ترافق ذلك مع عقوبات أمريكية قاسية منذ 2017، استهدفت القطاعين النفطي والمالي. بحسب تقرير من مركز البحوث الاقتصادية والسياسية بواشنطن، أسفرت العقوبات عن وفيات مقدرة بـ40 ألف شخص بين 2017 و2018.
يرفض مادورو الرواية الأمريكية، مؤكداً أن فنزويلا "دولة ذات مؤسسات ودستور وانتخابات"، ويتهم واشنطن باستغلال شعارات الديمقراطية لتبرير حصار اقتصادي ضد الشعب الفنزويلي.
صمود النظام رغم التحديات
كيف صمد نظام مادورو رغم الانهيار الاقتصادي والضغوط الدولية؟ الركن الأهم كان الجيش. منذ عهد تشافيز، أعيد تشكيل المؤسسة العسكرية عبر ربط القيادات بمصالح اقتصادية مباشرة: حقائب وزارية، وإدارة موانئ وشركات عامة.
وإلى جانب الجيش، بنى مادورو شبكة من مليشيات "الدفاع الشعبي" واللجان المجتمعية. في خطاب أغسطس 2025، أعلن استعداده لـ"تعبئة 4.5 ملايين من المليشيا للدفاع عن الوطن".
التحالفات الدولية: الرهان على عالم متعدد الأقطاب
يراهن مادورو على التحالف مع روسيا والصين وإيران كبديل للنظام الغربي. قدمت روسيا الدعم الدبلوماسي والعسكري، فيما تشتري الصين 77% من صادرات النفط الفنزويلي. أما إيران، فتبدو حليفة في المعاناة تحت العقوبات الأمريكية.
في هذا السياق، يقدم مادورو نفسه كجزء من جبهة مضادة للفاشية العالمية، حركة تناهض العنصرية والصهيونية والإمبريالية. هذه اللغة تجد صداها في قطاعات من اليسار العربي الذي يرى فيه استمراراً لخطابات جمال عبد الناصر وحركات التحرر.
المعركة الأخيرة
في نوفمبر 2025، أعلنت إدارة ترامب عن "عملية الرمح الجنوبي" وشنت ضربات على قوارب تدعي أنها تحمل مخدرات. تعلن واشنطن أنها في نزاع مسلح مع "عصابات مخدرات إرهابية"، فيما يتجهز مادورو لتحويل البلاد إلى "فيتنام جديدة".
الوضع معقد: من جهة، الاقتصاد في أزمة مع عودة التضخم واستمرار الهجرة. من جهة أخرى، يبدو النظام متماسكاً بفضل تحصيناته الداخلية والدعم الجيوسياسي من الشرق.
ما يجعل مادورو مهماً للقارئ العربي ليس فقط موقفه "ضد أمريكا" أو "مع فلسطين"، لكن لأنه يتحرك في المفترق المعروف في منطقتنا: بين مقاومة إمبراطورية متغولة وبناء نظام داخلي عادل، أو بين خطاب التحرر وممارسة الحكم السلطوي.
في هذه اللحظة، يبدو مادورو كشخصية تراجيدية، رجل لا يملك ترف التراجع، يواجه إمبراطورية لا تملك ترف الخسارة. كما قال في خطابه الأخير: "لن نكون أبداً مستعمرات وعبيداً، بل أحرار ومستقلون وذوو سيادة إلى الأبد".