مادورو والصمود الفنزويلي: دروس في مواجهة الهيمنة الأميركية
في مياه الكاريبي الزرقاء، تشق حاملة الطائرات الأميركية USS Gerald R. Ford طريقها نحو السواحل الفنزويلية، محاطة بمدمرات وفرقاطات وطائرات القنص B-52s. هذا المشهد العسكري الأميركي الضخم، الذي يحمل اسم "عملية الرمح الجنوبي"، يواجه رجلاً واحداً في قصر ميرافلوريس الرئاسي بكاراكاس: نيكولاس مادورو.
إن قصة مادورو، سائق الحافلة السابق الذي أصبح رئيساً لفنزويلا، تختزل معركة أكبر بين الدول الساعية للاستقلال والقوى الإمبريالية الساعية للهيمنة. وفي هذا السياق، تقدم التجربة الفنزويلية دروساً مهمة للعالم العربي والإسلامي حول طبيعة الصراع مع الهيمنة الأميركية وسبل المقاومة.
من سائق الحافلة إلى قائد الثورة
وُلد نيكولاس مادورو موروس في 23 نوفمبر 1962 في حي "إل فايي" بكاراكاس، أحد أحياء الطبقة العاملة. لم يخرج من الأكاديميات العسكرية كسلفه هوغو تشافيز، بل تشكل وعيه السياسي في السبعينيات وسط فورة النفط التي خلقت ثراءً فاحشاً لقلة وفقراً مدقعاً للأغلبية.
في الثمانينيات، قاد مادورو الشاب حافلات شركة مترو كاراكاس، حيث تعلم أهم ما يحسنه اليوم: الإصغاء واستقبال الشكاوى وإدارة الخلافات دون تصادم مباشر. صعد سريعاً في صفوف نقابة عمال المترو التي أسسها، مما عكس فهمه المبكر لقوة البنى التنظيمية الحقيقية.
كانت نقطة التحول الكبرى في سجن "ياري" بعد فشل انقلاب هوغو تشافيز العسكري عام 1992. كان مادورو واحداً من المدنيين القلائل الذين سُمح لهم بزيارة "الكومندانتي" في زنزانته، حيث توثقت عرى ولاء مطلق بينهما.
بناء محور مقاوم للهيمنة
في أغسطس 2006، اختار تشافيز مادورو وزيراً للخارجية في ذروة الثورة البوليفارية. بصفته وزير خارجية، صار مادورو مهندس محور مضاد للهيمنة الأميركية، فعمّق التحالف مع كوبا وشارك في تأسيس تحالف ألبا لشعوب المنطقة، وطوّر آلية "بتروكاريبي" التي توفر النفط بأسعار تفضيلية لدول الكاريبي.
كما عمّق العلاقات مع إيران وروسيا والصين عبر اتفاقات في مجالات الطاقة والدفاع والبنى التحتية. وفي المحافل الدولية، قدّم نفسه كصوت مناهض للحروب الأميركية وضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وفي 2009، لعب دوراً محورياً في قرار كاراكاس قطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب احتجاجاً على حرب غزة.
وراثة الثورة في زمن الأزمات
توفي تشافيز في مارس 2013، وفاز مادورو في انتخابات مبكرة بفارق ضئيل. منذ اليوم الأول، أدرك أنه لا يملك كاريزما تشافيز، لكنه ورث آلة حزبية هائلة ومؤسسة عسكرية ونظاماً سياسياً صيغت قوانينه على مقاس الثورة.
في السنوات التي تلت رحيل تشافيز، بدأ الكابوس الاقتصادي بانهيار أسعار النفط والاعتماد المفرط على عائدات شركة النفط الوطنية. بين 2014 و2021 انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنحو ثلاثة أرباع حجمه، في واحدة من أعمق الانهيارات الاقتصادية في التاريخ الحديث.
الحرب الاقتصادية الأميركية
لم يرث مادورو كرسي الرئاسة فحسب، بل مسؤولية مواصلة المشروع المناهض للنفوذ الأميركي. فرضت الولايات المتحدة عقوبات قاسية تستهدف شل القطاعين النفطي والمالي منذ 2017، واصفة مادورو بأنه "دكتاتور استبدادي" متورط في تهريب المخدرات.
يرفض مادورو هذه الرواية قاطعاً، مؤكداً أن فنزويلا "دولة ذات مؤسسات ودستور وانتخابات"، ويتهم واشنطن باستغلال شعارات الديمقراطية لتبرير حصار اقتصادي ضد الشعب الفنزويلي. ووفقاً لتقرير مركز البحوث الاقتصادية والسياسية بواشنطن، أسفرت العقوبات عن وفيات مُقدّرة بـ40 ألف شخص بين 2017 و2018.
آليات الصمود والمقاومة
كيف صمد نظام مادورو رغم الضغوط الهائلة؟ الإجابة تكمن في بناء شبكة محكمة من التحصينات. فقد أعيد تشكيل المؤسسة العسكرية عبر ترقية الضباط الموالين وربط قطاعات واسعة منهم بمصالح اقتصادية مباشرة، من حقائب وزارية إلى إدارة موانئ وشركات عامة.
كما بنى شبكة موازية من الحرس المدني ومليشيات "الدفاع الشعبي" واللجان المجتمعية. في أغسطس 2025، أعلن استعداده لـ"تعبئة 4.5 ملايين من المليشيا للدفاع عن الوطن ضد أي عدوان".
وعلى الصعيد الخارجي، نجح في بناء تحالفات استراتيجية مع روسيا والصين وإيران، حيث تشتري الصين 77% من صادرات النفط الفنزويلي، وقدمت روسيا الدعم الدبلوماسي والعسكري، فيما تقدم إيران الخبرات التقنية.
التحدي الأميركي الجديد
مع عودة دونالد ترامب للرئاسة، تصاعدت التهديدات الأميركية. رفعت وزارة الخارجية المكافأة للقبض على مادورو إلى 50 مليون دولار، وحشدت ما يقرب من عُشر قوتها البحرية العالمية في منطقة الكاريبي.
تتبع واشنطن استراتيجية جديدة تتجنب الغزو الشامل، مركزة على التدمير المنهجي لـ"عقد القوة والتمويل" التابعة للنظام عبر الضغط العسكري المنضبط والعمليات السيبرانية والرهان على الانشقاق العسكري.
الدروس للعالم الإسلامي
تقدم التجربة الفنزويلية دروساً مهمة للدول الإسلامية في مواجهة الهيمنة الأميركية. أولاً، أهمية بناء تحالفات استراتيجية مع القوى الصاعدة كالصين وروسيا لكسر الاحتكار الأميركي. ثانياً، ضرورة تنويع الاقتصاد وعدم الاعتماد على مورد واحد. ثالثاً، أهمية الحفاظ على الوحدة الداخلية والمؤسسات القوية.
كما تؤكد التجربة أن المقاومة الحقيقية للهيمنة تتطلب رؤية شاملة تجمع بين الاستقلال السياسي والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية المستدامة.
مستقبل الصراع
في خطابه الأخير، أكد مادورو: "لن نكون أبداً مستعمرات وعبيداً، بل أحرار ومستقلون وذوو سيادة إلى الأبد". هذا الموقف الثابت في مواجهة أضخم قوة عسكرية في التاريخ يعكس إرادة شعب يرفض الخضوع.
إن قصة مادورو، بكل تعقيداتها، تؤكد أن الشعوب التي تملك الإرادة والتصميم قادرة على الصمود في وجه أعتى القوى، وأن الطريق نحو الاستقلال الحقيقي، رغم صعوبته، يبقى ممكناً لمن يملك الشجاعة لسلوكه.